عاجل

العقل الطائفي فشل في السياسة والتنمية؛ وها هو يفشل في قراءة إيران #عاجل - بوابة اخر ساعة

0 تعليق ارسل طباعة
جو 24 :

كتب د.عبدالحكيم الحسبان - 

لأن الغرض الرئيس من هذه المقالة هو تناول الكيفية التي يقرأ بها العقل العربي إيران؛ الدولة، والامة، والمجتمع، والمشروع، وهو موضوع من الضخامة والصعوبة بحيث لا يمكن لمقالة صحافية تقتضي قواعد الكتابة الصحافية أن لا تتجاوز عدد كلماته بعض مئات، فانني سوف أركز في هذه المقالة على عناوين ومحاور رئيسة يشتمل عليها ما يمكن تسميته بالخطاب العربي حول إيران، وهو خطاب تكثف حضوره في الاسابيع الاخيرة بفعل الجولة الاخيرة من مواجهة العدوان الذي خاضته الجمهورية الاسلامية مع القوى الغربية مجتمعة ممثلة بالكيان الصهيوني الذي قرر وتكفل القيام بهذه المهمة القذرة عن الغرب كما يقول المستشار الالماني حرفيا وهو سليل تراث الحداثة وما بعد الحداثة التي يفاخر بها مثقفو الغرب واعلاميوه.

ولأن الحديث هنا هو عن العرب وأيران لجهة الكيفية التي تصف بها النخب العربية والاعلامية إيران، كما الكيفية التي تنتج بها العوام في العالم العربي إيران وهو ما يمكن قراءته في الصحافة وفي التعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي، فإنني سوف أبدأ المقالة بلحظتين تاريخيتين كاشفتين تم انتاجهما في نفس اللحظة الزمنية تقريبا أي في الاسابيع الاربعة الاخيرة: لحظة تاريخية تنتمي للعرب تكشف عن مشروعهم وخياراتهم، كما عن موقعهم في ميزان القوى الاقليمي والعالمي، ولحظة تاريخية أخرى خاصة بإيران، التي كانت في موقع القلب من الحدث كما في موقع القيادة من صياغة الحدث الاقليمي بل والعالمي في الاسابيع الاخيرة.

ففي الاسابيع الاربعة الاخيرة التي تلت الزيارة الشهيرة للرئيس الامريكي لمنطقة الخليج والتي شهدت حديثا عن أرقام فلكية لاستثمارات خليجية مستقبلية في الولايات المتحدة ما دفع البعض للحديث عن تكريس للدور السعودي والخليجي في موازين قوى المنطقة يجعل من السعودية والخليج الرقم الصعب في قضايا المنطقة، جرى سريعا اختبار ميزان القوى الجديد هذا حين قرر وزراء خارجية السعودية ومصر والامارات والاردن التوجه مجتمعين لرام الله للقاء رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في مهمة ديلوماسية وسياسية بحتة، فكان أن قرر وزير الامن القومي الصهيوني وحكومة الكيان رفع البطاقة الصفراء في وجه وزراء خارجية كبرى الدول العربية سكانيا واقتصاديا. فكل هذا الثقل الذي تملكه هذه القوى كما القوى التي تمثلها لم تنجح في إيصال خمس أو ست من وزراء الخارجية العرب المسالمين غير الحاملين لاي سلاح سوى صوت الحكمة والعقل والسياسة ولغة القانون الدولي كي يلتقوا برئيس سلطة فلسطينية ولدت في الاصل وفق ارادة اسرائيلية واميركية. فكان أن قرر وزراء الخارجية أن يلتقوا خارج رام الله بعد أن لم تنجح كل أوراق القوة الناعمة التي يملكوها في مجرد تحقيق لقاء ديبلوماسي.

وفي مقابل العرب ووزنهم في ميزان القوى الاقليمي والدولي، شهدت المنطقة والعالم لحظة وحدثا تاريخيين كاشفين يتعلقان بأيران الدولة والامة والمجتمع. وأقصد هنا لحظة العدوان الصهيوني الغربي على جمهورية إيران والتصدي الايراني التاريخي لهذا العدوان على مدى 12 يوما الذي تقول الوقائع لمن يقرأها جيدا أنها لم تكن ضربة للبرنامج النووي العسكري الايراني مطلقا بل كانت هذه حجة تتطلبها قواعد التسويق السياسي والاعلامي، بل كانت ضربة لاهم مفاصل النظام والدولة والمجتمع بهدف خلق ديناميكية من الخارج تؤدي للتفتت والصراعات والتأكل من الداخل. العدوان كان محاكاة في الشكل والمبدأ العام لما جرى في ليبيا، والعراق وسوريا؛ أي ضرب مفاصل النظام من الخارج كي يراه الداخل ضعيفا فيتشجع لمواجهته والاطاحة به. من يقرأ تفاصيل الضربة الاسرائيلية الاولى والخطاب المسجل مسبقا لنتنياهو الذي اعد كي يبث في وقت متزامن مع ضرب مفاصل النظام، مع تلك الصورة التي بثت بالتزامن وجمعت نتنياهو مع نجل شاه ايران السابق المخلوع، كلها تقول أن الضربة لم تكن للبرنامج النووي الايران بل كانت ضربة لاياران النظام والدولة والمجتمع والمشروع.

في المقارنة بين اللحظتين العربية والايرانية، ثمة جبال من الفروقات. ففي مقابل فشل أمة العرب بتأمين لقاء قد يكون بروتوكوليا بين وزراء الدول الكبيرة في عالمهم مع رئيس السلطة الفلسطينية، خاضت ايران وبنجاح كبير معركة امتصاص الضربة الغربية التي جرى التحضير لها على مدى سنوات طويلة، كما خاضت معركة اقتحام سماء الكيان وحدوده واجوائه بالصواريخ والمسيرات ذات الاجيال المختلفة. ما جرى في المنطقة على صعيد المشاريع يحمل الكثير من المفارقات. زعامات عربية تقرر ان مشروعها هو السلام والتطبيع، وتراهن على خوض صراعات المنطقة والعالم بالتطبيع واتفاقيات السلام والتطبيع الابراهيمي تفشل في تمرير سيارات خمسة وزراء خارجية عرب للقاء رئيس سلطة فلسطينية ولدتها سلطات الاحتلال، في مقابل صواريخ انتجتها عقول وجامعات ومراكز أبحاث ايرانية، وسط حصار وعقوبات دولية غير مسبوقة تاريخيا تقتحم أجواء كيان الاحتلال وتصل لكل نقطة تريدها عقول وسواعد الشباب الايراني.

يمكن الحديث كثيرا عن الفوارق في تفاصيل التجربتين التاريخيتين الخاصتين بالشعب العربي وذلك الخاص بالشعب الايراني وسوف استعرضها سريعا لانني سوف اركز في المقالة على الكيفية التي يقرأ بها عقل العرب ايران، كما ترى بها عيون العرب ونخبهم أيران فتصفها وتصنفها وتحاكمها. ففي التجربة التاريخية التي سجلتها الثورة الاسلامية في إيران، وأنا هنا لا اتحدث بمنطق المنتمي طائفيا أو ايديولوجيا أو سياسيا لايران وثورتها. فانا من اشد المقتنعين بالدولة المدنية التي يديرها عقل سياسي مدني وتقدس في الوقت عينه حرية أفرادها حتى في خياراتهم الدينية. ولكن الوقائع الموجودة على الارض هي أكبر من تنكر وجودها أي عين أو عقل موضوعي. وحده التفكير الطائفي والعشائري السابق للعقل التاريخي والسياسي والعلمي من ينكر هذه الوقائع ولا يريد له أن يراها. فالعقل الطائفي والعشائري غير التاريخي وغير السياسي، يعجز عن قراءة إيران الا وفق أدوات وحدود التفكير الطائفي والعشائري، ولانه عقل بقي عند حدود بناءات العشيرة والطائفة ولم يتجاوزها تاريخيا ليصل إلى حدود الدولة والامة والسياسة والتاريخ فأنه يعجز عن قراءة أي معطيات تتعلق بالامة والدولة والسياسة والتاريخ.

في قراءة ايران ومشهديتها وتفاصيل أحداثها يهيمن على خطاب النخب العربية في السياسة كما في الاعلام ناهيك عن العوام منهم لازمات لغوية من قبيل المشروع الشيعي، والمشروع الصفوي، والهلال الشيعي، وأذرع أيران، ووكلاء أيران، وعملاء إيران، والحروب بالوكالة، والنفوذ الايراني. وهي المصطلحات والمفردات التي باتت تشكل عدة الشغل والتحليل السائد في تناول الشأن الايراني من قبل الاعلام العربي المهيمن ومن قبل الكثير من الساسة وصناع القرار. فالدولة والمجتمع والسياسة والهوية والمشروع في إيران تختزل كلها في كلمة طائفة وكلمة شيعة. والحال، فانه وأمام قراءة كل هذه الوقائع المتصلة بايران يفشل العقل الطائفي والعشائري في قراءة إيران وتجربتها ومشروعها، ولانه عقل طائفي فهو لا يستطيع أن يقرأ إيران إلا على اساس انها طائفة وليست أمة، وانها طائفة وليست دولة، وأنها ليست دولة أمة ذات مشروع سياسي. ولان الخطاب السائد يختزل إيران بكلمتي شيعة وطائفة فإن هذا الخطاب يعجز عن رؤية وقائع هي بمثابة نجاحات تاريخية سجلتها إيران الثورة والدولة والمجتمع والتاريخ والثقافة والمشروع.

في لائحة الوقائع التي سجلتها الثورة الاسلامية في إيران تظهر النجاحات التالية: بناء سياسي متماسك غير مغلق ومفتوح إلى حد كبير، فمن ينظر إلى اسماء شخصيات النظام بعيون غير طائفية سيقرأ الكثير؛ المرشد مولود في أربيجان، والرئيس مولود في مهاباد في كردستان لاب اذربيجاني يتحدث التركية ولام كردية تتحدث الكردية، ورئيس مجلس الامن القومي لسنين طويلة هو عربي سني من الاهواز واقصد هنا الجنرال علي شمخاني. وفي ايران بناء مؤسساستي معقد يشتمل على موقع المرشد، ومجلس تشخيص مصلحة النظام ومجلس الخبراء ومجلس الشورى ومجلس صيانة الدستور، وفي إيران تداول سلمي للسلطة. فعلى مدى اربعين عاما ونيف من عمر الثورة توالى على موقع الحكم رئاسة ووزارة العشرات من الاسماء ولا يمكن لذاكرة أي منا أي تحتفظ باسماء من تداولوا على مواقع السلطة في إيران، بالنظر على كثرتهم والى تعاقب اسمائهم. وكل هذا التدوال والتعاقب في السلطة يجري وفق قواعد انتخاب وترشح وليس وفق قواعد الانقلابات العسكرية أو الوراثة كما هو حال مجتمعات العشيرة والطائفة.

وفي قائمة النجاحات التي سجلتها الثورة الايرانية تظهر تلك القدرات العسكرية التي يتم انتاج اكثر من تسعين بالمئة منها بايدي ايرانية، فالبرنامج الصاروحي الايراني المتقدم جدا هو انجاز ايراني بحت، ويأتي البرنامج النووي أيضا ليمثل ذروة الاندفاعة التاريخية لللامة الايرانية التي تستطيع في ظل ظروف حصار دولي خانق من أن تنتج مدارسها وجامعاتها اكثر من عشرة الاف عالم وتقني وفني وخبير في مجال الطاقة النووية، كما نجحت في دخول عالم تكنولوجيا الفضاء الى جانب دول قليلة من دول العالم. واما على صعيد التعليم الجامعي فقد استطاعت اكثر من 30 جامعة ايرانية أن تكون بين افضل جامعات العالم في العقد الاخير، في حين بلغت نسبة نمو البحث العلمي والابحاث العلمية المنشورة اكثر من ثلاثة الاف بالمئة في السنوات الاخيرة.

العقل الطائفي الذي يقرأ كل أحداث المنطقة بأدوات فكرية طائفية يريد لنا أن نرى ما جرى في سوريا على انها صراع طائفي، وأن ما يجري في المنطقة ككل هو صراع طائفي، وان كل السياسة في المنطقة لا يمكن فهمها الا من خلال التحليل الطائفي. وبرغم كل محاولاته يعجز العقل الطائفي أن يجيب عن بعض الاسئلة التي نطرجها من قبيل: اذا كانت ايران تدير مشروعا فارسيا شيعيا، فكم عدد من تشيعوا، وكم عدد من تحدثوا الفارسية، وكم عدد المدارس الفارسية والشيعية في غزة وسوريا وفنزويلا؟ في مقابل من يتحدثون الانجليزية والفرنسية وحتى العبرية، فحتى اليوم الاخير ما قبل انهيار الدولة السورية السابقة مثلا لم يحصل قط وان سمعت اغنية فارسية يتم بثها على قنوات الراديو او التلفزة، بل وحتى اليوم الاخير للنظام السابق كانت الاغنيات الانجليزية والفرنسية هي التي يتم بثها على بعض قنوات الراديو والتلفزيون. ولم اسمع حتى اليوم عن أي عائلة من غزة تحولت للتشيع، كما لم اسمع عن انتشار للغة الفارسية في غزة أو لبنان أو سوريا في مقابل هذا الانتشار المذهل للانجليزية في هذه البلدان.

ويعجز العقل الطائفي الذي يقدم ايران بادوات ومصطلحات طائفية أن يشرح لنا معنى هذا التنوع الكبير في تحالفات ايران الخارجية بين دول سنية، واخرى كاثوليكية بل وبعض الدولة الشيوعية من قبيل كوبا وفنزويلا. كما يعجز هذه العقل الطائفي الذي يختزل المشروع الايراني بالشيعية والتشيع عن تفسير معنى أن تكون العلاقات الايرانية الارمينية تتسم بالود بل وبالتحالف في احيان كثيرة في مقابل علاقة متوترة وتتسم بالصراع مع جمهورية اذربيجان التي ينتمي سكانها للاسلام الشيعي.

وأما العقل الطائفي الذي يخترل المقاومة في المنطقة بانها مجرد مشروع ايراني فارسي أو شيعي، فهو يعجز عن رؤية الحقائق التاريخية على الارض في هذه المنطقة. فحالة اأو فكرة اأو ظاهرة المقاومة لم تكن يوما مجرد حالة شيعية او فارسية بحتة بل هي حالة عابرة للحدود السياسية والطائفية، وهي لطالما تبادلت االاتجاهات عبر الحدود تاريخيا. فليس صحيحا أن الفكر المقاوم في المنطقة سواء في لبنان أو فلسطين او العراق أو اليمن هو نتاج حالة شاذة شيعية مستوردة، بل كان الفكر المقاوم هو حالة تنتمي للمنطقة كلها، وهو ليس حالة ايرانية شيعية بحتة أو عرببة بحتة. فلطالما أثر الفكر القومي العربي المعادي للاستعمار بالخريطة الفكرية السياسية الايرانية ويمكن الاشارة هنا مثلا إلى ثورة الشعب الايراني التي قادها مصدق وكانت بمثابة صدى ينسجم مع الفكر القومي العربي الذي قاده عبدالناصر وانتج حالة ثورية في مصر والجزائر وفلسطين. وبنفس القدر الذي تأثر التيار القومي الايراني بالحركة القومية العربية، تأثرت ثورة أية الله الخوميني الاسلامية بأفكار الحركات الاسلامية في مصر والعالم العربي ويكفي الاشارة هنا الى العديد من الخطب التي تحدث بها الخوميني والخامنائي بكل الاحترام والمهابة عن الاخوان المسلمين وعن سيد قطب.

واما حالة المقاومة اللبنانية فتستحق الكثير من التامل، فحزب الله ولد ليس كمولود شيعي بل كمولود لبناني وعربي ، فالارض التي احتلت وشهدت فظاعات الغزو الصهيوني كانت الارض اللبنانية والعربية ما مهد الظرف الموضوعي التاريخي لولادة حزب الله. الشيعة موجودون في لبنان منذ قرون طويلة ولم ينتجوا ظاهرة حزب الله، ولكن هذه الظاهرة ولدت في اللحظة التي احتل بها لبنان وتدنست ارض جنوبه وعاصمته بالاحتلال الصهيوني. وأما شيعة لبنان فلم يكونوا يوما مجرد كيان صغير ملحق بإيران أو غيرها، ويكفي للتدليل على ما نقول أنه وحين كانت ايران تحكم من قبل الشاه الموالي للغرب لم يكن شيعة لبنان موالين لايران، بل كان الضمير الشيعي هو جزء من الضمير العربي المقاوم حينها، وكانت نخب الشيعة كما نخب السنة في لبنان وسوريا وفلسطين والاردن ومصر هي نخب قومية ناصرية. ولان حزب الله كان حركة مقاومة لبنانية عربية فلم يحدث وأن استشهد أي من عناصره على ارض كرمنشاه أو اصفهان أو طهران، بل سقط شهدائه دائما في مواجهة العدو الصهيوني واحيانا في موجهة أدواته وعملائه.

ومن المهم الإشارة إلى أن اكبر القادة في المقاومة اللبنانية كانوا في حقبة السبعينات جزءا من حالة المقاومة الفلسطينية بحيث يمكن القول أن العقل العسكري المؤسس في حزب الله كان قد تتلمذ على يد ابوخليل الوزير وقادة منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان. كما أن من المهم الاشارة إلى ان المؤسسين للحرس الثوري الايراني نفسه كانوا في الاصل من بعض القيادات التي تتلمذت على يد المقاومة الفلسطينية واللبنانية. ويمكن الاشارة هنا الى اسم مصطفى شامران الذي تدرب في لبنان في صفوف حركة امل كحركة مقاومة للاحتلال الصهيوني ليغادر بعدها الي ايران ويؤسس الحرس الثوري الايراني، كما يمكن الاشارة الى ان هاشمي رفسنجاني وهو رئيس ايراني سابق واحد قادة الثورة الايرانية سبق وان تدرب في لبنان. ما يعني أن حركة المقاومة لا يمكن تطييفها كما يفعل الطائفيون والعقل الطائفي.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق