عاجل

تصوير الله الآب (2) - بوابة اخر ساعة

0 تعليق ارسل طباعة

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
تصوير الله الآب (2) - بوابة اخر ساعة, اليوم السبت 5 يوليو 2025 05:30 صباحاً

​وديعة الإيمان​ الَّتي تسلَّمناها من الربِّ يسوع المسيح، صخرة الكنيسة، بواسطة الرسل الأطهار، واستمرَّت في الروح القدس من خلال الآباء القدِّيسين، ما تزال وديعةً كاملةً ومتكاملةً، تُعاش بأمانة وترتيب، بعيدًا عن كلِّ انحراف وتشويش وتخيُّلات بشريَّة. يشمل هذا الأمر كلَّ أبعاد الكنيسة: الإيمانيَّة والعقائديَّة والليتورجيَّة والفنِّيَّة والتنظيميَّة، وحياة المؤمنين، وكلِّ ما يدخل في الإطار الكنسيِّ. وهذا ما دعا إليه ​بولس الرسول​ بقوله: "لأَنَّ اللهَ لَيْسَ إِلهَ تَشْوِيشٍ بَلْ إِلهُ سَلاَمٍ، كَمَا فِي جَمِيعِ كَنَائِسِ الْقِدِّيسِينَ" (1 كورنثوس 14: 33).

يمكن للتشويش أن يتسرَّب إلى كلِّ بعد من الأبعاد المذكورة أعلاه إذا ابتعدنا عن ​الإيمان المستقيم​، أي التسليم الشريف الَّذي يضمُّ كلَّ الأبعاد الكنسيَّة. والابتعاد هو انحراف يولِّد هرطقات بلا نهاية، وهذه الهرطقات تنزع السلام من النفوس.

الإنسان المصلِّي هو إنسان مصلٍّ روحًا وجسدًا، يمارس إيمانه ويعيشه بكلِّ حواسِّه الخمس، لذلك فإنَّ كلَّ ما يدور حوله ويسمعه ويلمسه ويذوقه ويشمُّه ويراه يؤثِّر فيه إيجابًا إذا كان صحيحًا، وسلبًا إذا شابه النقص والانحراف.

واجب الكنيسة هو الحفاظ على الترتيب الإلهيِّ لتساعد المؤمن في جهاده وإيمانه وصلاته، كما أنَّ واجب المؤمن هو عدم الابتعاد عن الإيمان الحقيقيِّ، كي لا تجرفه الهرطقات والبدع. فالحياة المسيحيَّة هي إيمان وعيش لهذا الإيمان، ومعرفة وصقل لهذه المعرفة بالتفسيرات الصحيحة.

إذا أخذنا موضوع ​الأيقونات​ مثلًا، فقد حرصت الكنيسة منذ البداية على أن يكون كلُّ تصوير متجانسًا مع إيمانها لأنَّه منبثق منه، ويسير في اتجاه واحد مع الكتاب المقدَّس وفهمه الصحيح، وخلاف ذلك يُعدُّ مرفوضًا. لذا ظهرت من بداية القرون المسيحيَّة الأولى الجداريَّات والأيقونات للربِّ يسوع المسيح، لأنَّه ابن الله الحيّ المتجسِّد، بينما لم يُصوَّر الآب السماويُّ لأنَّه لم يتجسَّد.

لكن عادت وظهرت تصاوير للآب كشخص مسنٍّ ذي لحية بيضاء، خاصَّة في روسيا بعد الألف الأولى، متأثِّرة بالغرب وبالنهضة الإيطاليَّة، ثمَّ عبرت إلى اليونان وإلى بلادنا.

وقد ردَّ مجمع Stoglav الروسيُّ (1551م) على ذلك مؤكِّدًا نبذ كلِّ تعديل أو ابتكار أو تحريف يشوِّه المعنى اللاهوتيَّ للأيقونة، ورفض كلَّ ما يتعارض مع ما هو مسلّم إلينا والمتَّبع في الفنِّ الإيقونوغرافيِّ (قانون 42-43). كما اشترط أن يكون كاتبو الأيقونات على معرفة لاهوتيَّة دقيقة بالعقيدة وبالفنِّ الأيقونيِّ، وأمر بتكريم الأيقونات بشكل لائق، ومنع معاملتها باستخفاف أو قلَّة احترام.

أمَّا المجمع الكبير في موسكو (1666–1667م)، فقد أدان بشدَّة تصوير الآب (قانون 59)، واعتبره عبثًا وهرطقةً بشكل رسميٍّ، محرِّمًا تمامًا رسم ربِّ الصباؤوت – أي الله الآب – على هيئة شيخ ذي لحية بيضاء يحمل الابن، وكذلك تصوير الروح القدس على شكل حمامة.

والسبب أنَّ الله الآب لم يتجسَّد ولم يره أحد، إلَّا الابن الوحيد، الواحد في الجوهر معه، الَّذي تجسَّد. والآب والابن والروح القدس إلهٌ واحد[1].

فكان قرار المجمع تصحيحًا للانحراف الَّذي دخل حديثًا إلى الكنيسة الروسيَّة. وقد استند الانحراف إلى تفسير خاطئ للآية:

"كُنْتُ أَرَى أَنَّهُ وُضِعَتْ عُرُوشٌ، وَجَلَسَ الْقَدِيمُ الأَيَّامِ. لِبَاسُهُ أَبْيَضُ كَالثَّلْجِ، وَشَعْرُ رَأْسِهِ كَالصُّوفِ النَّقِيِّ، وَعَرْشُهُ لَهِيبُ نَارٍ، وَبَكَرَاتُهُ نَارٌ مُتَّقِدَةٌ." (دانيال 7: 9)، باعتبار أنَّ "القديم الأيَّام" هو الآب.

لكنَّ دانيال النبيَّ لم يقل إنَّه رأى إنسانًا أو وجه إنسان، بل أعطى وصفًا يشير إلى الألوهة والنقاوة والحكمة الإلهيَّة.

إنَّه مشهد الدينونة نفسه الَّذي رآه القدِّيس يوحنَّا الإنجيليُّ عن المسيح: "وَأَمَّا رَأْسُهُ وَشَعْرُهُ فَأَبْيَضَانِ كَالصُّوفِ الأَبْيَضِ كَالثَّلْجِ، وَعَيْنَاهُ كَلَهِيبِ نَارٍ." (رؤيا 1: 14). وقد طابق القدِّيس إكليمندس الإسكندريُّ (150–215م) رؤيا دانيال مع ما ذكره يوحنَّا عن العرش في الرؤيا: "نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ الْكَائِنِ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَأْتِي، وَمِنَ السَّبْعَةِ الأَرْوَاحِ الَّتِي أَمَامَ عَرْشِهِ." (رؤيا 1: 4).

كما تكلَّم الربُّ يسوع عن هذا في الدينونة العامَّة حين يجلس على العرش ليدين الناس بحسب أعمالهم (متَّى 25: 31–32). وشرح القدِّيس يوحنَّا الدمشقيُّ (675–749م) أنَّ ما ورد في رؤيا دانيال يشير إلى المسيح.

إذًا، التفسير الكتابيُّ الخاطئ يضرب عقيدة الثالوث القدُّوس، لأنَّه يجعل الآب منظورًا، وهذا لم يحصل قطُّ لا في الرؤيا ولا في الحقيقة: "اَللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ" (يوحنَّا 1: 18).

هناك من فسَّر جداريَّة القبَّة في سرداب San Biagio (1196م) في إيطاليا على أنَّها تمثِّل "القديم الأيَّام"، لكنَّها في الواقع للمسيح، إذ إنَّ الصليب ظاهر داخل الهالة حول رأسه.

ويحيط بالمسيح نجوم، والكروبيم، ورموز الإنجيليِّين الأربعة، وإلى جانبه النبيَّان دانيال وحزقيَّال. كما تحيط بالجداريَّة مشاهد من حياة المسيح: البشارة، الرحلة إلى مصر، الدخول إلى الهيكل، ودخول المسيح إلى أورشليم. التصوير يمزج بين الأسلوبين الشرقيِّ والغربيِّ.

أشهر التصاوير للقديم الأيَّام هي تلك الَّتي رسمها مايكل أنجلو في سقف كنيسة سيستين (1508–1512)، حيث جمع بين تصوير القديم الأيَّام والتصوير الكلاسِّيكيِّ القديم للإله جوبيتر، ودمجهما مع صورة اليد الإلهيَّة الممتدَّة للإنسان، الَّتي كانت شائعة في الفنِّ المسيحيِّ الأوَّل.

في الختام، نعود إلى ما شدَّد عليه المجمع المسكونيُّ السابع بخصوص ​التصوير الإيقونوغرافي​ِّ: "إنَّ تصوير الأمور المقدَّسة لا يُترك لأهواء الرسَّامين، بل يجب أن يكون وفقًا لما تسلَّمناه من الكنيسة، كما نُقِل إلينا عبر الآباء القدِّيسين".

إلى الربِّ نطلب.

[1].راجع مقالة السبت "تصوير الله الآب"، بتاريخ السبت 21 حزيران 2025.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق