أجساد مترامية، أطفال في عمر الزهور، وشباب في مقتبل الحياة كلهم دفعوا ثمن وسيلة نقل لا تصلح للآدميين وسط هذه المعاناة، كانت محافظة المنيا تخطط في صمت، حتى جاءت اللحظة التي حوّلت المأساة إلى أمل.

كان المسؤول الأول، اللواء عماد كدواني، محافظ المنيا، يخطط في هدوء، بعيدًا عن ضجيج التصريحات، واضعًا نصب عينيه هدفًا واحدًا حماية أرواح المواطنين.

بدأت المحافظة بالفعل في تنفيذ هذا الهدف منذ أغسطس الماضي، من خلال إطلاق منظومة استبدال سيارات "البيك أب" بسيارات ميكروباص آدمية، وذلك ضمن المرحلة الأولى التي شملت مدينة ومركز المنيا، إلى جانب مراكز جنوب المحافظة أبوقرقاص، ملوي، وديرمواس.

أما المرحلة الثانية، فقد امتدت إلى مراكز شمال المحافظة سمالوط، مطاي، بني مزار، مغاغة، والعدوة، لتصبح المنيا أول محافظة في صعيد مصر تحظر تمامًا استخدام سيارات البيك أب في نقل المواطنين، في خطوة تنظيمية غير مسبوقة ضمن خطة متكاملة لتعزيز السلامة المرورية وتوفير وسائل نقل آدمية وآمنة.، ضمن جهود تحسين جودة النقل وضمان السلامة العامة.

من جانبه ، أكد اللواء عماد كدواني، محافظ المنيا، أن تطبيق منظومة استبدال "البيك أب" بسيارات ميكروباص آدمية، يأتي في إطار رؤية الدولة لحماية أرواح المواطنين وتحقيق العدالة في جودة الخدمات المقدمة، وعلى رأسها النقل العام.

قال المحافظ هذه ليست مجرد عملية إحلال سيارات، بل مشروع حياة... نحن نعيد رسم خريطة التنقل داخل المحافظة، ونُقدّم لأبنائنا وسيلة آمنة تليق بهم وبأسرهم. الدولة لن تسمح أبدًا باستمرار وسائل نقل بدائية تُعرّض الناس للخطر."

أشار إلى أن المحافظة ستواصل جهودها في التنسيق مع الجهات الشريكة، وعلى رأسها البنك الزراعي المصري، لتوفير كل التسهيلات الممكنة للسائقين، حتى تتحول هذه المبادرة إلى نموذج وطني يمكن تعميمه.

لم يكن القرار مفاجئًا أو مفروضًا دون بدائل، بل جرى تنفيذه بمنتهى التدرج والوعي المجتمعي. حيث وفرت المحافظة بدائل واقعية عبر ميكروباصات آدمية مرخصة وقانونية، بالتعاون مع البنك الزراعي المصري الذي لعب دورًا محوريًا في دعم السائقين من خلال تسهيلات ائتمانية في الشراء. شروط مرنة للسداد. و مشاركة في التمويل لتخفيف الأعباء المالية على السائقين

وقد تم تنفيذ المرحلة الأولى بتسليم 170 سيارة ميكروباص، وتُستكمل المنظومة بـ المرحلة الثانية، المقررة يوم الخميس المقبل، وتتضمن 400 سيارة جديدة، منها 250 سيارة بالتعاون مع البنك الزراعي تقريبا. و150سيارة من معارض السيارات

بينما المكسب الأكبر لم يكن في الشكل ولا التنظيم فقط، بل في الأثر المباشر على حياة المواطنين. فمنذ تطبيق المنظومة، انخفضت حوادث "البيك أب" إلى الصفر على مستوى المحافظة، وهو رقم غير مسبوق في السنوات الأخيرة. فالحوادث التي كانت تقع يوميًا توقفت.. كما تراجع الضغط على المستشفيات  بشكل ملحوظ وتراجعت حالات الوفاة بصورة كبيرة مما أدى إلى تقليل نفقات العلاج، كما أدى ذلك إلى تقليل الإنفاق على الإعانات والمساعدات الاجتماعية التي كانت تُصرف لأسر الضحايا والمصابين.

لسنوات طويلة ، كانت سيارات "البيك أب" تعمل خارج أي منظومة قانونية. فمعظمها كان يُقاد بواسطة صبية دون السن القانونية. وسائقين يحملون رخص قيادة "خاصة" فقط و لا يخضعون لتحليل المخدرات أو الفحوصات الطبية ومركبات غير مطابقة لمعايير الأمان والمتانة

هذا كله جعل من "البيك أب" قنبلة موقوتة على عجلات، تهدد أرواح المئات دون رقيب أو حساب.

رغم المخاوف المبدئية من السائقين، إلا أن ما حدث كان على عكس التوقعات؛ فقد أبدى الكثير من السائقين ترحيبًا بالمنظومة، خاصة بعد توفير تمويل مناسب ودعم لوجستي، وتحسين شكل السيارة ومكانتها الاجتماعية.

في الوقت ذاته، أبدى المواطنون ارتياحًا كبيرًا للقرار، لما وفره من أمان، واحترام، ونظام في عملية التنقل اليومي، بدلًا من المخاطرة بأرواحهم فوق عربات مكشوفة على طرق سريعة.

النجاح الكبير للمنيا لم يمر دون أن يُلاحظ. فقد طالبت عدة قرى ومراكز في محافظات أخرى بتعميم التجربة، وسط إشادة واسعة بمنظومة نقل آمنة ومحترمة تُحترم فيها إنسانية المواطن.

والأهم أن التجربة تتسق تمامًا مع توجهات الدولة المصرية في تطوير خدمات النقل الداخلي، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتحسين جودة الحياة في المحافظات، خاصة في الصعيد.

من جانبه، أكد سامي عبد الصادق، القائم بأعمال رئيس البنك الزراعي، أن مبادرة إحلال السيارات تهدف إلى توفير وسائل نقل أكثر أمانًا وكفاءة، من خلال تقديم تيسيرات مالية وبرامج تمويل ميسرة لسائقي سيارات الكبوت، بما يمكنهم من التحول إلى استخدام سيارات الميكروباص الحديثة وفق خطوط سير جديدة.

أشار إلى أن البنك يقوم من خلال هذا المشروع الحضاري بتمويل إحلال السيارات بقروض ميسرة وتسهيلات كثيرة من خلال بروتوكولات تعاون مع المحافظات، بهدف دعم أصحاب وسائقي سيارات النصف نقل ومساعدتهم على شراء السيارات الميكروباص الجديدة للوفاء بالتزاماتهم، بما يحقق الرعاية الاجتماعية لمالكي السيارات ويساهم في زيادة دخلهم، علاوة على مساعدتهم للالتزام بقرارات المحافظين وإدارات المرور.

أكد على ضرورة إلغاء الإعتماد علي السيارات البيك آب كوسيلة مواصلات لنقل الركاب بين القرى والمدن، حرصا على توفير الراحة والأمان للركاب، إضافة للبعد البيئي للمبادرة نظراً لأن هذه السيارات تعمل بالوقود المزدوج ” غاز طبيعي وبنزين” بما يسهم في تحسين وحماية البيئة من خلال إتاحة سيارات تستخدم مصادر نظيفة واقتصادية للطاقة ممثلة في الغاز الطبيعي

من جانبه، صرح العميد وليد العاطون  مدير إدارة مرور المنيا  بأن إدارة المرور رصدت نتائج إيجابية مباشرة منذ بدء تطبيق المنظومة، وفي مقدمتها الانخفاض التام في حوادث "البيك أب"، والتي كانت تشكّل نسبة مرتفعة من إجمالي الحوادث المرورية سنويًا. كنا نتعامل يوميًا مع حوادث مروّعة بسبب استخدام سيارات البيك أب في غير أغراضها، بالمخالفة لقانون المرور رقم 66 لسنة 1973.

الآن، وبعد تطبيق المنظومة، تراجعت الحوادث إلى صفر لأول مرة، وهو إنجاز أمني ومجتمعي غير مسبوق."

لم يتوقف طموح محافظة المنيا عند تطوير منظومة النقل، بل تمضي قُدمًا نحو تنظيم حركة النقل الداخلي بالكامل

رفع كفاءة المواقف وتوفير أماكن. لكبار السن وذي الاحتياجات الخاصة 

ما بين الماضي والحاضر، تقف محافظة المنيا شامخة وقد نجحت في طي صفحة "البيك أب" إلى الأبد. لا مزيد من الحوادث العشوائية، لا مزيد من صرخات الأمهات ولا جروح لا تندم. في مكان الموت، بات هناك مسار للحياة... ونقل يليق بالإنسان.

هذه ليست مجرد تجربة، بل درس حقيقي في الإرادة والإدارة، يستحق أن يُسجَّل كقصة نجاح في تاريخ النقل المصري.

يمكنك مشاركة الخبر علي صفحات التواصل