تتزايد في العصر الراهن وتيرة الحياة الإنسانية وتتعاظم فيها الضغوطات اليومية الحادة على اختلاف مسمياتها، لكن ما يضفي خطورة على ذلك هو "الإيذاء النفسي المتعمد" التي تجعل فرص الصدمات النفسية والإجهاد المزمن نتيجة القلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) في تزايد من جهة وتجعل المتضررين من الإيذاء النفسي المتعمد يفكرون في الانتحار أو يحاولون إيذاء أنفسهم من جهة أخرى، وهذه أكثر من مجرد تحديات عابرة، بل عوامل قادرة على إلحاق ضرر بالغ بالإنسان وتحديداً الدماغي وأنظمة الذاكرة البشرية، وتشويه القدرة على الإدراك، والتفاعل، واتخاذ القرار.
لكن الأخطر من ذلك أن الإيذاء النفسي المتكرر والمعتمد سواء داخل الأسرة أو بيئات العمل أو المؤسسات وغيرها، لا يمر دون أثر على الدماغ، فقد أثبتت الدراسات العلمية والبحثية العالمية أن هذا النوع من الانتهاكات يغير بشكل فعلي هياكل الدماغ المسؤولة عن الخوف والقلق، ويؤثر على طريقة معالجة المشاعر، مما يجعل الضحية تعيش في حالة تأهب دائم، أو ما يعرف بـ"القلق السام!".
وبالرغم من هذه الحقائق العلمية الخطيرة، لا تزال معظم التشريعات حول العالم قاصرة عن تجريم الإيذاء النفسي صراحة، خصوصاً داخل المؤسسات العامة والمهنية، حيث قد ترتكب الانتهاكات بغطاء بيروقراطي أو سلطوي، وقد تتخذ أشكالًا خفية مثل الإقصاء، التهميش، التمييز، التجاهل المتعمد، أو الممارسات الإدارية الجائرة، وتزداد خطورتها حينما تصدر من شخصيات ذات نفوذ أو سلطة إدارية داخل المؤسسات أو تكون جزءاً من سياسات تنظيمية تستهدف أفراداً بعينهم ربما نتيجة تعارض المصالح والاهتمامات، علاوة على الاختلافات في الآراء، وحتى القيم وغيرها!
كما أن الإيذاء النفسي هو استخدام متعمد ومنهجي للكلمات والسلوكيات غير الجسدية بهدف إرباك الضحية أو إخضاعها أو إضعاف ثقتها بذاتها، وهو شكل من أشكال العنف الذي لا يُرى بالعين لكنه يُدمّر من الداخل، ووفق الدراسات العلمية تظهر على ضحايا الإيذاء النفسي مجموعة من الأعراض طويلة الأمد، منها:
أولاً: الشعور بالتشوش، القلق، وفقدان الدافع.
ثانياً: تدني احترام الذات، والإرهاق العقلي والعاطفي.
ثالثاً: الانسحاب الاجتماعي والشعور بالعزلة.
رابعاً: صعوبة في تكوين علاقات صحية أو الثقة بالآخرين.
خامساً مشاكل على مستوى العمل، الوضع المالي، أو القدرة على تربية الأبناء.
سادساً: الإصابة بالاكتئاب، اضطرابات القلق، أو اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD).
سابعاً: في الحالات القصوى، قد تصل إلى التفكير في الانتحار أو إيذاء الذات.
كل هذه الرؤى العالمية يؤكد أننا بحاجة ملحة إلى تشريعات واضحة تجرّم الإيذاء النفسي كما نُجرّم الاعتداء الجسدي، قوانين صارمة تحمي الأفراد، خصوصًا العاملين في المرافق المؤسسية، من الممارسات التي تنتهك كرامتهم وتؤثر على صحتهم النفسية، فكما نرفض العنف الجسدي ونعتبره جريمة، علينا أن نتعامل مع العنف النفسي بنفس الجدية والصرامة خصوصاً وأنه يفضي إلى انتهاك حقوق الإنسان والقتل المتعمد!.
الإيذاء النفسي ليس خلافًا عابراً أو سوء تفاهم، بل هو انتهاك لحقوق الإنسان، وهجوم على الكرامة، وعدوان على الصحة العقلية، وإن الصمت عنه، أو التهاون معه، يكرّس بيئة سامة تشجع الاستغلال وتمنح المسيء غطاءً مؤسسياً.
إن العدالة حول العالم لا تكتمل ما لم تشمل حماية الإنسان من العنف الهادئ والخفي... فكم كلمة، قد تهدم ما لا تقدر عليه ألف ضربة .. وكم تهميشٍ واقصاء ممنهج، هو فعل قتل ناعم، لا يُراق فيه دم، لكن تنزف فيه الأرواح بصمت.!
0 تعليق